Download Free Audio of البداية من النهاية الوداع: ... - Woord

Read Aloud the Text Content

This audio was created by Woord's Text to Speech service by content creators from all around the world.


Text Content or SSML code:

البداية من النهاية الوداع: دمعة على الصرح العظيم السّاعة كانت تقترب من الرابعة عصرا.. نسمة رقيقة هبت من البحر تصارع رطوبة الظهرية التي كانت عالقةً بالجوِّ الحارِّ.. حرارة متوقعة. فصيف حرقيقو قد هلّ، وها هو يونيو، وها هو موسم إجازة الصيف.. فبالأمس فقط انتهى العام الدراسي. فرغت للتّو من ترتيب مكتبي قبل أن أُسَلِّم مفاتيح المكتب إلى فرّاش وحارس مجمع المدارس الأمين، السيد اسماعيل محمد، لتبقى في عهدته إلى حين عودتي، في شهر سبتمبر، وفتح المكتب بعد العطلة الصيفيّة... هكذا جرت العادة. لكن هذه المرّة كانت مختلفة عن سابقاتها، هذه المرة قرّرت ألا أعود... قَرَّرت أن أرحلَ بعيداً إلى المجهول... وإلى أجلٍ غير مسمّى. تردّدت أن أترك رسالة وداع يقرأها من يأتي بعدي ويبلّغها لمن يعود من الزّملاء إلى المدارس بعد رحيلي. ولكنّي لم أفعل، فالظّرف السّياسيّ كان حرجا؛ لا أحد يدري بأيّ لون تأتي الأيام في سبتمبر. ودّعت مكتبي في صمت. خرجت.. وفي ذهني ألف سؤال وسؤال: هل سأراه ثانية؟ هل سأعود إلى هذا المكان ولو كزائر؟ وإذا عدت من سأجد وماذا، يا ترى؟ ... سحبت الباب الخلفيّ.. بعدها مَرَرْتُ بالفصول كلّها.. أسترجعُ ذكرياتي في كل فصل منها.. من أول يوم وطأتا فيه قدماي هذا المكان كتلميذ صغير إلى هذا اليوم.. تذكّرت أساتذتي، بل كدت أسمع أصواتهم، تذكرت زملائي.. حتى رائحة الصنوبر التي تنبعث من أقلام الرصاص المبرية حديثا، رائحة المطابع التي تحملها الكتب الجديدة معها استحضرتْ نفسها.. تذكرت أناشيدي القديمة.. والإعداد للمناسبات.. واستعراض الكشافة.. وهتاف الجمهور وتصفيقه عقب فقرات حفل آخر العام الدراسي.. انتهى بي المطافُ عند فناء المدرسة بالقرب من عمود العَلَم والذي كان يتوسط ساحة مدرسة البنين.. عمود بلا علم... تساءلت: يا تُرى ماذا كان إحساس المدراء الّذين سبقوني عندما ودّعوا هذا المكان؟ ماذا أحس ساتي، وطيفور، ومنتاي، وسبي، وإبن، ومحمد عبد القادر وسليمان.. بالتأكيد كانت لكلّ واحد منهم قصّة وداع مختلفة. مسحت المبنى بنظري، وأنا أشعر بحزن يعتصر قلبي. أمر يحيّرني، أشعر بشيء ينتزع انتزاعا من داخلي، أو شيء ينتزعني من شيء أنا جزء منه، فراغ كبير في داخلي لا تستطيع كلماتي وصفه. قضيت في هذا المكان أجمل وأحلى سنوات حياتي؛ بدأت فيها كتلميذ، ثمّ أصبحت فيها معلّما، وبعدها صرت مديرا... مرّت السّنوات ومَضَتْ كلمحِ البصر.. وهذا هو دأبُ كل شيء جميل، أمهـا الآن فقد حان وقتُ الرحيل. سأهاجر لا أدري وجهتي، ولا الفترة التي ستمتدّ فيها هجرتي، ولكن لابدّ أن أهاجر، وربّما ستكون هذه آخر مرة أرى فيها هذا المكان فربّما لن أعود! أو ربّما لن يكون هذا الصّرح لن يكون موجودا حين أعود، إن عدت، فالأمور لا تبشّر بالخير أبداً: قتل وتدمير وتشتيت وتشريد مؤسسي قديما أنشدت لهذا المكان نشيد الشوق: صباح الخيرِ مدرستي... صباح الخير والنور إليك اشتقت بالأمس... فزاد اليوم تبكيري. أما اليوم وأنا أودعه وجدت نفسي ادندن نشيد الوداع للشاعر الأسكتلندي الشهير روبرت بيرنز، وترجمة الشاعر السوداني أحمد محمد سعد: هل ننسى أياماً مضت هل ننسى ذكراها هل ننسى أياما مضت مرحاً قضيناها. من أجل أيام مضت من أجل ذكراها فلنرفع علم الوفا من أجل ذكراها ووجدت نفسي أطلب من هذا الصّرح متمتما أن يسامحني إن كنت قد قصرت في أداء واجبي يوما، وأن يتجاوز عن زلل ارتكبتها بحقّه دون أن أدري! غادرت المجمع بخطوات ثقيلة بطيئة وكأنني مكبل بسلاسل السنين. مشيت بتثاقلٍ باتجاه الجامع حيث موقف حافلة الساعة الخامسة التي تذهب إلى مصوّع.. في طريقي.. مررت بأطفال يلعبون في الحارة.. تركوا لعبهم وجروا نحوي.. " أستاذ ناظر...أستاذ ناظر" وهذا كان اللقب الّذي كانوا ينادوني به الطلبة لا أدري من اكتشفه، ولكنه كان يروق لي. كان له وقعٌ جميلٌ على مسمعي، كوقع المطر في يوم صيفي كهذا على أرض أدناها العطش.. تبادلت معهم بعض الكلمات وعقلي مشغول: يا ترى ماذا الذي سيلم بأطفالنا؟ وودعتهم بدعاء. وهم لا يدرون إني مودعهم.