Download Free Audio of حرقيقو بين الماضي البعيد وا... - Woord

Read Aloud the Text Content

This audio was created by Woord's Text to Speech service by content creators from all around the world.


Text Content or SSML code:

حرقيقو بين الماضي البعيد والأمس القريب المخطوطات المصرية القديمة تذكر أن في عهد الملكة حتبشسوت، ملكة أرض الفراعنة، (مصر اليوم) و من حوالي ٤٠٠٠ عام كان هناك تبادلا تجاريا بين الفراعنة و المنطقة الموجودة فيها الآن حرقيقو؛ مما يعني بأن المنطقة كانت مأهولة منذ الاف السنين، و كانت لها علاقات بالعالم عبر البحر الأحمر. و لو قفزنا الى ما قبل ١٤٠٠ عام، فهجرتي الصحابة الى أرض النجاشي مرت بهذه المنطقة. يلي ذلك امتداد نفوذ الأمويين الى جزر دهلك و الاتجار مع ميناء مصوع (و التي كانت ايضا تسمى باضع). هذه دلالات على أن حرقيقو ولدت في حضن حضارة ضاربة في أعماق التاريخ. حرقيقو كانت تعتبر من أهم المدن على ساحل البحر الأحمر منذ قرون؛ و قد ذكرها بعض الرحالة و البحارة في خرائطهم و الكثيرون منهم أشادوا بازدهارها. وجاءت شهرتها مع مجيء قبيلة البلو، واختيارهم لها لتكون مركزا لحكمهم ؛ و المقر الرئيسي لأمارتهم. من أمارة الى "نيابة"، بعد مجيء الأتراك، قرون خمس تربعت فيها حرقيقو على مقعد السيادة في المنطقة. تعددت الأسماء و المسمى واحد! الاسم "حرقيقو"، كما يقال، مشتق من كلمة حريق بالعربية؛ نسبة للحرائق في المنطقة . و لحرقيقو اسماء أخرى: "دخنو" أو " دكنو" ويعني " الفيل” بلغة الساهو. و قيل أن دخنو اشتقت من كلمة دوخني أو دوكني والتي تعني المركبة بلغة العفر. و لكن لماذا لا تكون كلمة "دخنو" مشتقة من كلمة "دخان" بالعربية، وهي مفردة لها صلة بالحرائق؟! و تسمى حرقيقو أيضا ”مندر“ و هي تحريف لكلمة ” بندر“ العربية و التي تعني السوق. و هناك من أطلق على البلدة اسم “مدائن” على اعتبارها أقدم مدينة في المنطقة. حرقيقو قبل ١٩٧٥م حرقيقو.. اسم له وقع عجيب على الأذن و العين. من يقف على أي نقطة على ساحل جزيرة مصوع الجنوبي و ينظر في إتجاه جبل قدم يرى بلدة حرقيقو على شكل بستان كبير أو غابة صغيرة. أشجار الدوم و السدر و النخيل، و الحناء و السنط التي تملأ البلدة، تحجب تفاصيل البلدة عن الناظر؛ بحكم مسافة الـ١٢كيلو متر التي تفصلها عن مصوّع. سمعة حرقيقو و قصصها التي تسبقها الى مسامع الناس، تجعل من يراها عن بعد يتملكه الفضول ليزورها و يراها. و يمكن الوصول اليها من مصوع برا عن طريق آسفلتي يتحول الى ترابي مع اقترابه من البلدة؛ أو بحرا بقارب أو سفينة شراعية كما كان يفعل أهلها في الماضي، أي ما قبل سنة ١٩٧٥م. باقتراب الزائر من مشارفها، تتفتح تفاصيلها أمامه على مهل. فتظهر بيوتها البسيطة أولا، و كأنها كتلة واحدة. تلي بعد قليل أحياؤها، التي تفصلها عن بعض وديان كانت في الماضي البعيد ممرا للسيول التي كانت تجري في أيام الأمطار من الهضاب الى البحر. يتوسط البلدة سوقها و جامعها، و ليس ببعيد عنهما مدارسها في قلب مجمع ضخم، يضم مدرسة للبنين، و مدرسة للبنات، و مدرسة للنجارة و الحدادة و ميكانيكية السيارات، و مستلزمات المدارس من مكاتب و مستودعات، و عيادة، و سوق خيري، و سكن معلمين و موظفين. تحيط بالمدينة سلسلةٌ من الهضاب من الغرب، و جبال "عقمبستا" من الجنوب، و جبلُ قدم العملاق يحضنها من الجنوب الشرقي، و ساحل البحر (الأحمر) من الشرق. أما الشمال فمفتوح و يمتد الى "عداقة"، ضاحية من ضواحي مصوع. حرقيقو بلدة الشتاء و الصيف. فشتاؤها جميلٌ حتى و إن أتت لياليه أحيانا عاصفةً؛ تزمجر رياحها فوق البيوت و بين الزقاق و أعالي الشجر.. حتى و إن بدى الرعدُ مفزعاً و البرقُ مخيفاً لا يحتمل .. حتى و إن جاءت السيول ماردة، هادرة كاسرة تزأر .. فكثيرا ما يتلو تلك الليالي صباح جميل هاديء مُعَبّق بعطر المطر. فينسى أهلها الطيبون ما حصل بالامس و يطمئنون على بعضهم البعض شاكرين على السلامة رب البشر.. صيف حرقيقو لغير أهلها لا يطاق: جحيم على شكل شمس محرقة و سموم تجفف الأنوف و الحلوق و غبار يحجب الرؤية .. يكاد يعمي البصر.. و ما أصعب ذلك في بلدة بلا مكيفات أو حتى مراوح كهربائية تخفف وطأة الحر. فيهرب الناس من الصيف كالهارب من السيف! و لكن معظم أهلها لا يبالون .. يبللون الأرض و الملبس بالماء و عند الشدة يستغيثون المولى عز وجل، و الاستجابة غالبا تأتي في لمح البصر، فالغيث هو الرد حتى في غير أيامه. و هذا و إن بدى عجيبا، فإيمانهم الراسخ بأن الله يلطف بهم يجعل الاستجابة عندهم أمراً عادياً. في العموم، حرقيقو جميلة جمال فجرها الندي و شروق شمسها المبهر: شمس ترتفع من وراء بحر يداعب ساحل البلدة بأمواج خجولة تتكسر دلعا على رمال بيضاء تسحر. جميلة جمال ضحاها و عصاريها الهادئة. و غروب يزحف على مهل و كأن الشمس تكره وداع تلك البقاع فتتمهل. أما سكون ليلها و إن تخلله نباح كلب أو عواء ذئب بعيد، يظل لباس هدوء ينشر السكينة. و بدرها الذي يتراقص ضوؤه على سطح البحر، فلوحة تغري أي فنان. و دجاها فلا يوجد ما يقارن به. . يمر على عجل ليفسح لتباشير يوم جديد و ترانيم صوت رخيم يتبعه أذان الفجر .. و الصلاة عند أهل حرقيقو دائما خير من النوم. و مبكراً يبدأ يوم حرقيقو. . بداية اليوم تعني: راع يهش غنمه أو يسوق ابلا و بقراً .. و عامل و موظف يهرعان الى محطة حافلة الخامسة الى مصوع. و صياد سمك تراه قد أبحر بعد الفجر ليعود بالخير قبل العصر، و حطاب سلاحه الفأس والحبل يتجه صوب الجبل. و أصحاب المحلات، و الحرف من جزار، و صائغ و إسكافي و ترزي و قهوجي و طباخ يأمون إلى السوق. و عند الساعة الثامنة يدق جرس المدرسة، معلنا بداية اليوم الدراسي. و هكذا تدب الحياة في البلدة و يستقبل سوقها تجار المواشي و المنتوجات الزراعية و باعة الحليب و مشتقاته. حركة البلدة تهدأ ساعة القيلولة بين صلاتي الظهر و العصر. و ما أجمل عصاري حرقيقو! تأوي حرقيقو الى فراشها بعد صلاة العشاء و حافلة الثامنة مساء آخر حافلة تأتي من مصوع. فحرقيقو بلدة تنشط مع الشمس: تنام بعدها بقليل، و تتحرك مع عبق الفجر الممزوج برائحة القهوة! لحرقيقو، هذه البلدة البسيطة، تاريخ حافل لايسع فصل في كتاب أن يحتويه. و يكفي أن نشير إلى القارىء الكريم أن يبحث عنه بطريقته بعد أن يفرغ من قراءة هذا الفصل. إن تاريخ حرقيقو ليس مجرد روايات تروى، ولا حتى تذكيرا ببطولات سجلت لأهلها، و لا تضحيات قدموها أبنائها دون تفاخر. الموضوع أكبر من هذه الامور. تاريخ حرقيقو أمر يهم كل اريتري. و أهميته تكمن في كون أنه يمثل جزءاً من الهوية الوطنية و التي يجب الحفاظ عليها. فمن لا تاريخ له، لا جذور له. و معرفة التاريخ عنصر من عناصر التربية الوطنية لكل جيل صاعد في أي مكان و زمان. في الواقع، من يزور حرقيقو اليوم يكاد لا يجد شيئا من حرقيقو سبعينيات القرن الماضي و ما قبل ذلك.. و لكن لو عاد نفس الزائر الى ما قبل مذبحة ١٩٧٥م، يصاب بالذهول من بساطة مساكنها، و من طيبة أهلها، إذ لا يجد في هذه البساطة و الطيبة ما يوحي أن واليها من حوالي ٥٠٠ عام كان يحكم من سواكن الى باب المندب، و من ساحل البحر الاحمر الى تيجراي. و لا يصدق أن أجداد سكان هذا البلد دحروا جيش اسحاق داويت الغازي القوي في عام ١٤٢٢م، بعد أن أحرق حرقيقو و أعتقد أنه قضى عليها. و الزائر أيضا لا يصدق أن هم أنفسهم من أفقدوا عساكر البرتغال صوابهم، وعطشوهم و سلبوهم راحة البال و النوم الى أن أحرقوا البلدة هم كذلك، فقط لتنهض من جديد و يتحالف أميرها مع العثمانيين لطرد البرتغاليين شر طردة. و بحكم الوجود و السيطرة العثمانية أصبح الأمير "نائبا" لمقام السلطان العثماني: يحكم منطقته. و لا يصدق الزائر أن هم من قطع رأس الحاكم التركي عندما طغى و تجبر، فجاء خليفته و أحرقها هو الآخر. و عادت لتفرض نفسها من جديد. و ذهب الأتراك و جاء الايطاليون. و تعاملوا مع حرقيقو بحذر. و جاء بعدهم الانجليز و لكنهم أحبوا أن يكسروا شوكة تمرد و عناد حرقيقو عندما أظهرت رفضها لتعسفهم وعدم انصياعها لسيطرتهم، قررالمستر كروبر حاكم المنطقة إحراقها و حدد اليوم و الساعة. و تهديده كان واضحا: "ارضخوا لأوامري و ارفعوا الراية البيضاء، و إلا سأحرق البلدة فوق رؤوسكم." و المهلة كانت الساعة الثامنة الا دقيقة لذلك اليوم. و لكن كروبر هلك قبل الموعد. و خرجت حرقيقوا الى الشوارع رافعة بوارق الطرق الصوفية تنشد: ساعة ثمانية الا دقيقة....تسلم حرقيقو ما فيش حريقة. و يستغرب الزائر من بعض البداوة التي يراها فيها، و يخطر له أن ذلك يعود الى عنادها و عدم رضوخها لكل من أتى مستعمرا مما أدى الى حرمانها من مميزات التحضر، من ماء و كهرباء و صرف صحي.. ما يغفل عنه الكثيرون أنها هي التي اختارت أن تبعد كل ما قد يجذب الغرباء اليها. فإلى يوم حريقها الأخير من قبل إثيوبيا، لم يكن في حرقيقو فندقا أو خانا للغرباء. فإما أن يكون للزائر مضيفا من أهل البلد يستضيفه و إلا لا مكانة له. و سكانها معروفون بكرم الضيافة لمن يقبلوه ضيفا. مر عهد البريطانيين و ولى. و مجلس الأمن أدخل اريتريا في اتحاد فيدرالي مع اثيوبيا. الى ذلك الحين، كان لحرقيقو بقايا من أمجاد الماضي؛ و لكن بها أو بدونها كانت دائما متمردة كعادتها. فأبناؤها كانوا من أوائل من انضم لحركة تحرير اريتريا. حركوا المظاهرات و الإضرابات، و العصيان. عرفت اثيوبيا أنه لا سلام مع هذه البلدة. و وضعتها في القائمة السوداء. ضمت اثيوبيا اريتريا، فكانت حرقيقو من المدن التي علا صوتها بالرفض. انفجرت الثورة .. بدأت في المديرية الغربية. فكانت حرقيقو أول من تفاعل معها في آخر الشرق. حاولت اثيوبيا كثيرا لاستمالتها، و لكن دون جدوى. عوقبت بشتى الوان العقاب، فزادها ذلك عنادا. أفلست اثيوبيا في التعامل معها. أبناء حرقيقو من سياسيين و عسكريين، في الخارج أو الداخل أفقدوا اثيوبيا الصواب. كانت حرقيقو بالعادة تتجاوز الأزمات التي تهددها أو تحد من تأثير تلك الأزمات عليها، بشتى الأساليب. الوضع في السبعينيات اختلف. ما آلت اليه الأوضاع أصبحت مبهمة بفعل التناحر في الجبهة، و وجود الجيش الإثيوبي في البلدة. في إريترياً، تداخلت المصالح الفئوية و الفردية بالعمل الوطني. وفي إثيوبيا، أمسى الجيش يائسا. وكان ملاذه الأخير الإبادة: مذبحتي عامي ١٩٧٥م و ١٩٧٦م. عامان سيذكرهما التاريخ الإريتري طويلاً. اليوم من يزور حرقيقو يجد جامعا و بقايا لصرح كبير كان مدارسها و بقايا أطلال هنا و هناك... و تاريخ يروي بطولات. من يسمع تاريخها يوقن أنها عائدة لا محال. و السؤال يبقى متى؟!